كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبيّ، وابن عباس، وعلي بن الحسين، والضحاك، ومجاهد، والحسن: {يا حسرة العباد} على الإضافة، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب؛ وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم.
وقرأ أبو الزناد، وعبد الله بن ذكوان المدني، وابن هرمز، وابن جندب: {يا حسرة على العباد} بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر، لما في الهاء من التأهه كالتأوّه، ثم وصلوا على تلك الحال، قاله صاحب اللوامح.
وقال ابن خالويه: يا حسرة على العباد بغير تنوين، قاله ابن عباس، انتهى، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء، كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه.
وقد قرىء: يا حسرتا، بالألف، أي يا حسرتي، ويكون من الله على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم، وفرط إنكاره وتعجيبه منه.
والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل، تحسرت عليهم الملائكة، قاله الضحاك.
وقال الضحاك أيضًا: المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم.
وقال أبو العالية: المراد بالعباد الثلاثة، وكان هذا التحسر هو من الكفار، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم.
قال ابن عطية: وقوله: {ما يأتيهم} الآية يدفع هذا التأويل. انتهى.
قال الزجاج: الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرًا.
وقيل: المنادى محذوف، وانتصب حسرة على المصدر، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة.
وقيل: {ياحسرة على العباد} من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم ولقتله.
وقيل: هو من قول الرسل الثلاثة، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وجل بهم العذاب، قالوا: يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا. انتهى.
فالألف واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم.
والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أو الرسل الثلاثة أو ذلك الرجل، أقوال.
{ما يأتيهم} إلى آخر الآية: تمثيل لقريش، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا}.
قال ابن عطية: وكم هنا خبرية، وأنهم بدل منها، والرؤية رؤية البصر. انتهى.
فهذا لا يصح، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا، ولا يسوغ فيها إلا ذلك.
وإذا كان كذلك، امتنع أن يكون أنهم بدل منها، لأن البدل على نية تكرار العامل، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح.
ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون، لم يكن كلامًا؟ لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم لا يرجعون؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية.
وقال الزجاج: هو بدل من الجملة، والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي.
وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء، لأنه ليس بدلًا صناعيًا، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو.
وقال أبو البقاء: أنهم إليهم.
انتهى، وليس بشيء، لأن كم ليس بمعمول ليروا.
ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال، وقولهم في الجملتين تجوز، لأن أنهم وما بعده ليس بجملة، ولم يبين كيفية هذا العمل.
وقال الزمخشري: {ألم يروا} ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في كم، لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناها نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم يروا أن زيدًا لمنطلق؟ وأن لم تعمل في لفظه.
و{أنهم إليهم لا يرجعون} بدل من {أهلكنا} على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ انتهى.
فجعل يروا بمعنى يعلموا، وعلقها على العمل في كم.
وقوله: لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، وهذا ليس على إطلاقه، لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسمًا مضافًا جاز أن يعمل فيها، نحوكم على: كم جذع بيتك؟ وأين: كم رئيس صحبت؟ وعلى: كم فقير تصدّقت؟ أرجو الثواب، وأين: كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ وقوله: أو للخبر الخبرية فيها لغتان: الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغة الأخرى، حكاها الأخفش؛ يقولون فيها: ملكت كم غلام؟ أي ملكت كثيرًا من الغلمان.
فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير، كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها.
وقوله: لأن أصلها الاستفهام، ليس أصلها الاستفهام، بل كل واحدة أصل في بابها، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر.
وقوله: إلا أن معناها نافذ في الجملة، يعني معنى يروا نافذ في الجملة، لأن جعلها معلقة، وشرح يروا بيعلموا.
وقوله: كما تقدم في قولك: ألم يروا أن زيدًا لمنطلق؟ فإن زيدًا لمنطلق معمول من حيث المعنى ليروا، ولو كان عاملًا من حيث اللفظ لم تدخل اللام، وكانت أن مفتوحة، فإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب.
وقوله: و{أنهم لا يرجعون} إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلًا، لا على اللفظ ولا على المعنى.
أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة، فيكون كم استفهامًا، وهو معمول لأهلكنا، وأهلكنا لا يتسلط على {أنهم إليهم لا يرجعون} وتقدّم لنا ذلك.
وأما على المعنى، فلا يصح أيضًا، لأنه قال تقديره، أي على المعنى: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك، فلا يكون بدل كل من كل، ولا بعضًا من الإهلاك، ولا يكون بدل بعض من كل، ولا يكون بدل اشتمال، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه، وكذلك بدل بعض من كل، وهذا لا يصح هنا.
لا تقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم، وفي بدل الاشتمال نحو: أعجبني الجارية ملاحتها، وسرق زيد ثوبه، يصح أعجبني ملاحة الجارية، وسرق ثوب زيد، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في سورة الأنعام.
والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف، ودل عليه المعنى، وتقديره: قضينا أو حكمنا {أنهم إليهم لا يرجعون}.
وقرأ ابن عباس والحسن: {إنهم} بكسر الهمزة على الاستئناف، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا.
والضمير في أنهم عائد على معنى كم، وهم القرون، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا، وهم قريش؛ فالمعنى: أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا.
وقيل: الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا، وفي إليهم عائد على المهلكين، والمعنى: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم.
وقرأ عبد الله: {ألم يروا من أهلكنا} وأنهم على هذا بدل اشتمال؛ وفي قولهم: {أنهم لا يرجعون} رد على القائلين بالرجعة.
وقيل لابن عباس: إن قومًا يزعمون أن عليًا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه.
وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر: بتثقيل {لما} وباقي السبعة: بتخفيفها.
فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا، وإن نافية، أي ما كل، أي كلهم {إلا جميع لدينا محضرون} أي محشورون، قاله قتادة.
وقال ابن سلام: معذبون؛ وقيل: التقدير لمن ما وليس بشيء، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة، وما زائدة، أي إن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين.
وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك.
وقال أبو عبد الله الرازي: في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعًا.
وهما لم وما، فتأكد النفي؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا، فاستعمل أحدهما مكان الآخر. انتهى.
وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة، أي إن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين.
وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف نفي، وهو قول مردود عند النحاة ركيك، وما تركب منه وزاد تحريفًا أرك منه، وكل بمعنى الإحاطة، وجميع فعيل بمعنى مفعول، ويدل على الاجتماع، وجميع محضرون هنا على المعنى، كما أفرد منتصر على اللفظ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل.
وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبيينًا أنه تعالى ليس من أهله يترك، بل بعد إهلاكهم جمع وحساب وثواب وعقاب، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} وما بعده من الآيات.
وبدأ بالأرض، لأنها مستقرهم، حركة وسكونًا، حياة وموتًا.
وموت الأرض جدبها، وإحياؤها بالغيث.
والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر.
و{أحييناها} استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ.
وقيل: أحييناها في موضع الحال، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام، ويكون آية خبرًا مقدمًا، والأرض الميتة مبتدأ؛ فالنية بآية التأخير، والتقدير: والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك: قائم زيد مسرعًا، أي زيد قائم مسرعًا، ولهم متعلق بآية، لا صفة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض، وليل بإحيائهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى.
وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك.
وأما يسبني فحال، أي سابًا لي، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه.
وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهج النفس والعين، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون، لا في السماء ولا في الهواء، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب، وربما تاقت النفس إلى النقلة، فالأرض يوجد منها الحب، والشجر يوجد منه المثر، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر، ولو كان من السماء لم يدرأ يغرس ولا أين يقع المطر.
وقرأ جناح بن حبيش: {وفجرنا} بالتخفيف، والجمهور: بالتشديد.
{ومن ثمره} بفتحتين؛ وطلحة، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بضمتين؛ والأعمش: بضم الثاء وسكون الميم؛ والضمير في ثمره عائد على الماء، قيل: لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف، أي من ماء العيون؛ وقيل: على النخيل، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره، أو يراد من ثمر المذكور، وهو الجنات، كما قال الشاعر:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له: كيف قلت بعيون، كأنه والذي تقدم خطوط؟ فقال أرت: كان ذاك.
وقيل: عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور، وعنى بثمرة: فوائده، كما تقول: ثمرة التجارة الربح.
وقال الزمخشري: وأصله من ثمرنا، كما قال: {وجعلنا} {وفجرنا} فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات، والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه، وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم.
ويجوز أن تكون ما نافية، على أن الثمر خلق الله، ولم تعمله أيديه الناس، ولا يقدرون على خلقه.
وقرأ الجمهور: {ما عملته} بالضمير، فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر.
وقرأ طلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: بغير ضمير مفعول عملت على التقريرين محذوفة، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية، أي وعمل أيديهم، وهو مصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول.
ولما عدد تعالى هذه النعم، حض على الشكر فقال؛ {أفلا يشكرون} ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد، أو يشرك به مشرك، فذكر إنشاء الأزواج، وهي الأنواع من جميع الأشياء، {مما تنبت الأرض} من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك.
وكل صنف زوج مختلف لونًا وطعمًا وشكلًا وصغرًا وكبرًا، {ومن أنفسهم} ذكورًا وإناثًا، {ومما لا يعلمون} أي وأنواعًا مما لا يعلمون، أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا.
وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه وعظم قدرته.
ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض، وهي المكان الكلي، ذكر الاستدلال بالليل والنهار، وهو الزمان الكلي؛ وبينهما مناسبة، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر، والزمان لا تستغني عنه الأعراض، لأن كل عرض فهو في زمان، ومثله مذكور في قوله: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} ثم قال بعده: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة} الآية.
وبدأ هناك بالزمان، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} الآية، ثم الحشر بقوله: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى} وهذا المقصود الحشر أولًا لأن ذكره فيها أكثر، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} انتهى، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيه تلخيص.